قال المصنف رحمه الله: [أو الأمر بما نهى عنه أو النهي عما أمر به، يقال فيها الحق] أي هذه الأقوال المبتدعة المحرمة، قال: [ويثبت لها الوعيد الذي دلت عليه النصوص ويبين أنها كفر] أي: لا تلغى النصوص، فإن كانت النصوص تنص على أعمال كفرية فيبين أنها كفر، فنقول مثلاً: الحكم بغير ما أنزل الله كفر، ونفي أسماء الله وصفاته كفر، وإنكار القدر كفر، فنقول هذا القول ونطلقه كما أطلقته الأدلة، قال: "كما يذكر من الوعيد في الظلم في النفس والأموال"، أي كما نقول: من اقتطع من مال آخيه شيئاً بغير حق فهو ظالم، من اغتاب أخاه فقد ظلمه، فمثلما يقال في الظلم يقال في الكفر والفسق والضلال، فتبقى نصوص الوعيد على إطلاقها وعلى بابها.
والمصنف رحمه الله يريد أن يرد على بعض الناس الذين يظنون أن من الورع ألا يكفِّروا أحداً، فيقولون عن عبادة القبور والطواف بها: هذه أمور منكرة ومحرمات، أو هذه أشياء لا تنبغي ولا تليق بالمسلمين! وهذا الظن منهم خاطئ، لأننا نكون بذلك قد سلبنا النصوص دلالتها ولم نعمل بها ولم نعلنها ونبينها.
وقد استدل المصنف رحمه الله على ما قررناه بكلام الأئمة، مع أن القرآن والسنة مليئان بالتكفير؛ لكن لأن بعض الناس ينتسب إلى هؤلاء الأئمة، فقال المصنف رحمه الله: [وكما قد قال كثير من أهل السنة المشاهير بتكفير من قال بخلق القرآن وأن الله لا يرى في الآخرة ولا يعلم الأشياء قبل وقوعها] فإذا كان كثير من الأئمة قد كفروا من قال: القرآن مخلوق، وكفروا أيضاً من قال: إن الله لا يرى في الآخرة، وهذا وارد ومنقول في كتب العقيدة، وكذلك من قال: إن الله لا يعلم الأشياء قبل وقوعها -أي: من أنكر مرتبة العلم من مراتب القدر وهي المرتبة الأولى، وإنما نص على هذه المرتبة لأن القدرية ينكرونها، ولذا قال الإمام أحمد والإمام الشافعي رضي الله عنهما: "ناظروا القدرية بالعلم"، فمن أنكر علم الله بالأشياء قبل وقوعها فقد كفر، فهذا نص عليه السلف، فهل هناك أحد يدعي أنه أكثر ورعاً أو تحرزاً من السلف ؟!
فأراد المصنف رحمه الله أن يبين لأتباع الأئمة الأربعة وغيرهم أن الأئمة كفروا من كفره الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، لكن ذلك على العموم لا للأشخاص.
يقول المصنف: [وعن أبي يوسف رحمه الله أنه قال: (ناظرت أبا حنيفة رحمه الله مدة حتى اتفق رأيي ورأيه أن من قال بخلق القرآن فهو كافر)] وقد نص المصنف رحمه الله على أبي حنيفة بالاسم؛ لأنه حنفي وهو يؤلف للحنفية، فحتى لا يقال: أنت خرجت عن مذهب إمامك؛ أراد أن يقول: إن مذهب الإمام أبي حنيفة -كما قال عنه تلميذه أبو يوسف -: إنه يكفر من قال: إن القرآن مخلوق، ولا شك أن أي حنفي مُسلِّم بأن الإمام أبا حنيفة أورع منه، وكل الحنفية مسلِّمون أنه متبوع ومجتهد وأن آراءه صحيحة، حتى إن بعضهم يغلو فيه غلواً عجيباً، فلشدة غلوهم وكون الشيخ المصنف منهم، ولأنه يريد أن يخاطبهم؛ نص على أن الإمام أبا حنيفة رحمه الله نص -كما روى عنه تلميذه أبو يوسف -: "أن من قال: القرآن مخلوق فقد كفر"، ولا يعني ذلك أن الإمام أبا حنيفة كفَّر كل معين! وإنما أطلق القول، ولهذا قال المصنف رحمه الله: "وأما الشخص المعين إذا قيل... إلخ"، أي أنه سيأتي الكلام على المعين، وأما ما هنا فإنما هو في الحكم على القول على العموم، أي أنه لابد من التفريق بين الحكم على المقالة والحكم على قائلها، والتفريق بين إطلاق الوعيد العام وبين تنزيله على المعين، والتفريق بين العقوبة وبين تنفيذها في حق المعين.